في عام 370 قبل الميلاد قال الطبيب اليوناني أبقراط إنه من الأفضل أن يعالج الإنسان أوجاعه بالصوم أفضل من اللجوء إلى الأدوية، ومع أن الصوم علاج طبيعي، يلجأ إليه الناس عند الحاجة في صمت؛ إلا أن المسلمين يعتبرونه فرصة مواتية للمصالحة مع الذات والرجوع بالنفس إلى معالم الخير والتغيير للأفضل، ويأتي كل سنة يحمل في طياته نسمات ونفحات ربانية تسمو بها النفس وترتقي إلى عالم رباني، فيأتي رمضان ليحرر الإنسان من أغلال الشح وقيود البخل، ويعلمه محاسن الصبر وثمرات الخير التي تتساقط طيلة أيامه، فيتساوى في أخذها الفقير والغني.
الصوم اليوم أصبح نهجا طبيا لتنظيف الجسد، والتغلب على أمراض مستعصية لا تعالجها الأدوية تماما، فبعد أبقراط جاء الطبيب الروماني كلود غاليين بحوالي 600 عام ليقول إن الصوم هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على التوازن بين المزاج والجسم، وكان مرضاه يخضعون بدون نقاش للفترة التي يقترحها عليهم فيصومونها، وكانت تختلف حسب نوع المرض. بعد 700 سنة أخرى جاء الطبيب الفارسي ابن سينا ليعالج مرضاه بصوم لا يتجاوز الثلاثة أسابيع، وفي حكايات قديمة عنه يقال إنه يبدأ بفهم طبيعة ونوع مرض صاحبه منذ دخول الحي الذي يقطن فيه، إذ أن المرض يبدأ من الفضاء المكاني إلى ثقافة المأكل والمشرب.
في القرن السادس عشر ذكر الطبيب السويسري باراسيلس نظريته التي تقول إن (الصوم يجعل الجسم يقوم بتنظيم ذاتي لنفسه)، لكنه اتخذه نهجا للعلاج. بعد ذلك جاء الطبيب فريدريك هوفمان، طبيب العائلة الملكية لبروسيا ليؤكد أن الأمراض الخطيرة قد تعالج بالاعتدال في تناول الطعام والصوم. وفي عام 1830 أحدث الطبيب الأمريكي إسحاق جينينغس المفاجأة الشبيهة بالمعجزة حين عالج طفلة مصابة بالتيفوس بالصوم والرّاحة. وفي عام 1900 التحق الطبيب الأمريكي بقافلة من يشجعون الصوم، وفتح مدارس عدة للحديث عن فضائل الصوم والتشجيع عليه. أما عام 1950 فيعتبر عاما فاصلا لتكاثر عدد الأطباء الذين يعالجون بالصوم، ويشجعون عليه في العالم الغربي، ومنهم هربرت شيلتون الذي أسس طب العلاج الذاتي بالصوم، وإدوارد بيرهوليت، وبول كارتون، وآخرون يعملون على تعليم مرضاهم كيفية الصوم والدخول في خطاب ذاتي مع أجسادهم لإعادة تنظيم عمليات أيضهم.
وفي مقال قديم للأديب عباس العقاد أشار فيه للوقائع العلمية للصوم، وربط المادة التاريخية بمستجدات العلم والكشوفات الحديثة في ما يخص الصوم، وفى هذا الصدد يقول: وراجع الباحثون العصريون أخبار الصيام المحققة فاستدلوا بحادث محافظ كورك (تيرنس ماكسوينى) على أن الجسم يحتمل البقاء بغير الطعام أربعة وسبعين يومًا إذا لم ينقطع كل الانقطاع عن الشراب؛ لأن المحافظ المذكور أمسك عن الطعام فى الثاني عشر من أغسطس، وبقى ممسكًا عنه إلى الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1920م، ولم يغب عن وعيه غير أيام قبيل وفاته، ولم يكن من أصحاب القوة البدنية البالغة، بل كان وسطًا بين القوى والهزيل.
رمضان يعتبر فرصة حقيقية لعيش تجربة الصوم، بما تحمله من جمال في التخلص من الشتات والتّبعثر بين أعباء العمل والعلاقات الاجتماعية، ورمضان شهر مبارك اختاره الله ليكون معلم خير ومنارة فضيلة ودعوة قوية لتجديد طاقات الروح التي يطمح كل الأفراد لتحقيقها، تصنع الذات القوية التي لا تزعزعها الرياح والعواصف بالإقبال على استغلال كل يوم وكل لحظة منه، لتشفي الروح وتحقق السعادة وتطهر الذات.
التعليقات