بات حضور أشكال شتى من الموروث المشرقي في الشعر العربي العالمي، سمة فنية، وهو ما اصطلح عليه في النقد المعاصر بمصطلح "التناص" أو الحوارية بين النصوص،

وتتم العلاقة الحوارية بين النصوص، كما يحددها باختين من خلال دخول فعلين لفظيين، أو تعبيرين اثنين، في نوع خاص من العلاقة الدلالية، يسميها بالعلاقة الحوارية. ويُحدد لها نوعين من العلاقة، الأول واضح بيّن بمعنى هو أقرب إلى الاقتباس والتضمين، والنوع الثاني خفي معقد وغير واضح وهو الذي يحاول فيه سياق كلام المؤلف، أن يُبدد كثافة خطاب الآخر، وهنا يمتص المؤلف نصوص سابقة ليعيد تشكيلها حسب رؤيته عند تشكيل نصه الجديد. وفي ضوء هذا التأسيس يمكن أن نقرأ تمظهرات التناص القرآني فينص الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين (1799-1837م) الذي برزت مؤثرات عربية وإسلامية متعددة في شعره، من أبرزها التأثر بالقرآن الكريم الذي يبرز بوضوح في قصيدته: (قبسات من القرآن)، تتألف القصيدة من تسعة مقاطع، حمل كل مقطع رقماً من دونة تسمية لها، وقد برز التشاكل في نص بوشكين عبر استعارة الشاعر للألفاظ والتراكيب التي تشكلّ بؤراً دلالية متوهجة في النص القرآني وبالدلالات نفسها ليوظفها الشاعر بطريق الترجمة الحرفية لها في نصه، من هنا برز التناص في ألفاظ دالة من مثل: الشفع، الوتر، الصلاة، الصبح، الحق، اليتامى، القرآن، نساء النبي، الحجاب، محتشمات، محمد، الشحيح، الأعمى، الكافرون، الحياة الدنيا، القنديل (المصباح)، النعيم، يوم الحساب... وتشكّل هذا الألفاظ معجم قصيدة بوشكين الأساسي، وهي في مجملها تحمل الدلالات القرآنية ذاتها التي يبني الشاعر عليها قصيدته. أما على صعيد التناص الأسلوبي، فما يلفت الانتباه أن كل مقطع من مقاطع القصيدة يتناص حرفياً مع آية، أو مجموعة آيات مقتبسة من القرآن، يعيد الشاعر إنشائها، أما بطريق الاقتباس الحرفي، عبر ترجمة العبارة بطريقة مقابلة العربية، أما بطريق الاقتباس التحويري الذي يقوم على حذف جزء من الآية، أو إضافة جزء عليها، أو بإعادة الصياغة بطريق لا تمحو الإحالة إلى الأصل، ومن أمثلة الاقتباس الحرفي مفتتح القصيدة الذي يقول فيه: / أقسم بالشفع والوتر/ فهو اقتباس من قوله تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) في سورة الفجر، ومن أمثلة الاقتباس التحويري الذي يقوم على صياغة الآية القرآنية، قوله في المقطع الثالث: / متكدراً تجهم النبي/ مستمعاً للضرير عن قرب: / توليّتَ، وهو لم يقرب رذيلة/ إن هذا ليجعله بحيره/ فهو صياغة تروي قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرجل الأعمى كما يرد في سورة عبس في قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى / أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى/ وَمَايُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)، وهنا نلحظ إضافة كلمة فجاء بوشيكن بلفظتين (متكدراً تجهم) للتعبير عن الفعل (عبس) الوارد في السورة القرآنية. وإعادة الصياغة هي التناص البارز، ربما بتأثير الترجمة، وهي التقنية التي يعتمدها بوشكين، فهو يُؤسس على المضمون القرآني صورته الشعرية فتأتي محاكية للأصل، كما نلحظ في المقطع الخامس الذي يقول فيه: أوقدت أنت الشمس في الكون/ لتنير السماء والأرض/ كزيت الكتان مملوءاً / ينير في بلورةالقنديل/، فهذه الصورة مقتبسة من قوله تعالى في سورة النور: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ...)، وعلى هذا النهج لم يخلُ مقطع من مقاطع القصيدة من الاقتباس من القرآن الكريم، وهذا ما يجعل المرء يتساءل عن السبب الكامن وراء ذلك، ففي مقدمة ترجمة القصيدة يشار إلى الحالة النفسية والظلم الذي وقع على بوشكين من القيصر والمجتمع الأرستقراطي في عصره، فتمّ نفيه، ومن هنا يمكن القول إن بحث الشاعر عن سكينة وطمأنينة نفسية، وكذلك بحثه عن خلاص لشعبه من حالة الفقر التي كانت سائدة في زمنه، هو ما جعله يجد في القرآن الكريم النمط الأخلاقي الذي ينصر الضعيف، ويعزز من قيم التعاون، من هنا نظر إلى الزكاة في النص القرآني على سبيل المثال على أنها كرم لا يُكدر بالمنة، ورأى في يوم الحساب خلاصاً من الظلم وأملاً في تحقق العدل ومعاقبة الظالمين، ومن هنا تبرز صورة الرسول الكريم باعتبارها نموذجاً مثالياً يُحتذى للنضال في سبيل الحق والعدل ونشر القيم الأخلاقية مهما كان ثمنها باهضاً، وبذلك يمكن القول إن قصيدة بوشكين تمثل نموذجاً راقياً لحوارية النصوص بين الثقافات من خلال الاحتفاء بالفني الجمالي والقيمي الأخلاقي الجامع للبشرية على سطح هذا الكوكب.

ألكسندر بوشكين