من يتأمل مطالع القصائد في الشعر العربي يجدها لا تخرج عن شكلين: فإما أن تكون ذات إشعاع يجذب القارئ، وينير له دروب القصيدة، وإما أن تكون بيتاً عابراً موقعه الصدارة فحسب، وهنا تبدو قيمة المطلع في الشعر مهمة في كونها مفتاحاً لكل أبواب الجمال التي ينشدها الشاعر، حتى لقد أضحت المقدمة في بعض القصائد قصيدة في حد ذاتها، ومن يقرأ في مطالع الشعر عند عنترة، وحسان بن ثابت -رضي الله عنه-، وجرير، والفرزدق، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وابن زيدون، وغيرهم ممن سبقهم، أو ممن جاء بعدهم، ستفتنه روعة كثير من مطالعهم الشعرية، وسيكتشف بأن هؤلاء الشعراء يمنحون مقدمات قصائدهم جزءاً كبيراً من مواهبهم وقرائحهم.
إن المطلع الشعري مؤشر جيد للقصيدة، سواء أكانت تلك القصيدة لشاعر قديم، أم لشاعر حديث، فمن خلاله تتضح المعالم والملامح، ومن خلاله يستطيع المتذوق النفاذ للنص، أو الابتعاد عنه، ومن هنا صار الوقوف عنده، والنظر في أدبيته وشعريته أمراً ذا قيمة وأهمية؛ ذلك أن المطلع قد يمهّد لجماليات شكلية، أو موضوعية داخل النص، فتكون مقدمة النص دالة عليه، أو مشيرة إليه على الأقل، ويزداد الأمر جمالاً إن كان في هذا المطلع الشعري ما يعلي من قيمته الأدبية، كتلوّنه بلون حكائي، أو انطباعه بطابع سردي، وهو ما شهدناه في كثير من مطالع الشعر العربي: قديمه وحديثه.
ولننظر نظرة عامة إلى كثير من قصائد المتنبي، فإننا سنجد في بعض مطالعها أنها تمثّل قصائد متوهجة في حد ذاتها، فمن ذلك مثلاً قوله: «القلبُ أعلم يا عذولُ بدائه..»، وقوله: «أغالبُ فيكَ الشوقُ والشوق أغلبُ..»، وقوله: «أدنى ابتسامٍ منكَ تحيا القرائحُ..»، وقوله: «لكل امرئٍ من دهره ما تعوّدا..:، وقوله: «أودُّ من الأيامِ ما لا تودُّه..»، وقوله: «عيدٌ بأية حالٍ عدتَ يا عيدُ..»، وقوله: «إني لأعلم واللبيبُ خبيرُ ..»، وقوله: «بادٍ هواكَ صبرتَ أم لم تصبرا ..»، وقوله: «شوقي إليكَ نفى لذيذَ هجوعي ..»، وقوله: «لعينيكِ ما يلقى الفؤادُ وما لقي ..»، وقوله: «أَرَقٌ على أرقٍ ومثليَ يأرقُ ..»، وقوله: «عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ..»، وغيرها.
ولو انتقلنا إلى العصر الحديث فإننا نجد كثيراً من الشعراء الذين أبدعوا في جعل مطالع قصائدهم قصائد مستقلة، ولعلنا نأخذ مثالاً على ذلك: أمير الشعراء أحمد شوقي، ففي كثير من مطالعه ما يجذب المتلقي منذ أول وهلة، ويمكن أن نشير إلى شيء من نماذجها، كما في قوله: «وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياءُ..»، وقوله: «أنادي الرسمَ لو مَلكَ الجوابا ..»، وقوله: «سلوا قلبي غداة سلا وتابا ..»، وقوله: «أُعِدّتِ الراحة الكبرى لمن تَعِبا ..»، وقوله: «بأبي وروحي الناعمات الغيدا ..»، وقوله: «ناشئٌ في الوَرْد من أيامهِ..»، وقوله: «تجلّدَ للرحيلِ فما استطاعا ..»، وقوله: «أَقدِم فليس على الإقدامِ ممتنَعٌ ..»، وقوله: «لكل زمانٍ مضى آية..»، وغيرها.
على أن المتأمل في مطالع الشعر عند الشعراء -قديمهم وحديثهم- قد يجد في بعضها غنية عن القصيدة، وربما كانت عكس ذلك، فتكون مفتاحاً يفتح للمتلقي أبواباً كثيرة يلج منها المتذوقون إلى أعماق النص وأغواره، وكم من قصيدة زان حسنها وجمالها بمطلعها، وكم من قصيدة عوّض مطلعها كل جمالٍ؛ ومن هنا فمطالع الشعر إنما هي مفاتيح تجذب الذائقة وتوجهها.
التعليقات