من أخطر الكلمات ما قد يفوه بها المرء في الأزمات ووقت الفتن، فإن الكلمة قد تشعل فتيلاً، أو تطفئ حماساً، أو تثبط مريداً للخير، فلعل السكوت في مثل تلك الأوقات خير وأبقى لدين المرء ولدنياه أيضاً.. ولذلك كانت حاجتنا إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" أشد من حاجة الأولين بمراحل..

في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت" إرشاد لحركة اللسان وما يقوم مقامها إلى الوقوف عن التعبير وإنتاج ما ليس خيرا، أو إشغال النفس والآخرين بما لا يتضمن نفعًا، وإن كان مباحًا، وليس في الحديث أمر للعقل والقلب بالوقوف عن التفكر وصناعة المحتوى الذهني القابل للترجمة الفعلية في أي وقت، فهذا مما لا يستطاع، ولذلك حين وصف التنزيل أحوال الذاكرين، وصفهم بأحوالهم قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، فأسمى ما يشغل المرء به نفسه هو ذكر الله، وفي أي حال لا يستطيع الفكر صناعة محتوى إبداعي نافع قابل للتجسيد الفعلي، فإن التفكر لن يتوقف وسيذهب إلى تدمير الذات بالوسوسة حيث لم يكن هناك شيء نافع، فأرشد التنزيل لإشغال الفكر بذكر الله ليكون ذلك الذكر هو المحطة التي اعتاد على التوقف فيها حين يعجز عن النفع، فجاء إرشاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر إلى الصمت حال العجز عن تجسيد الخير بالمقال، فإن الصمت للمؤمن خير حتى من الكلام المباح، لإن الصمت ينقله إلى حاله الأفضل وهو التفكر في آيات الله وذكره.

لقد تعددت أدوات الكلام وإخراج الفكرة في هذا العصر ولم تعد تقتصر على اللسان، أو على القلم والمحبرة التقليدية التي قد تستغرق وقتًا يجعل من المتكلم مراجعة ما سيقوله، فقد ذللت وسائل إخراج الفكرة إلى درجة أنك تختصر للذكاء الاصطناعي ما تريده في جملة يسيرة فإذا به يرفدك ببحث طويل عريض عميق فيما أردته، وقد تدور في ذهنك فكرة تريد إيصالها، فإذا بك أنت المنتج والمخرج والمؤلف وقد كفاك الذكاء الاصطناعي مؤونة البحث عن ممثل وبطولة، فهناك من التطبيقات ما ينشئ لك شخصيات وأبطالاً ليس لهم حقيقة على الواقع، ولكن فكرتك ستصل لجمهورك بالصورة التي أردتها وبلمسات يسيرة على لوحة مفاتيح الهاتف.

ولذلك كانت حاجتنا إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" أشد من حاجة الأولين بمراحل، فقد يكون الأول قاعدا في بيته، لا يستطيع أن يُسمع أحدا أفكاره إلا إذا تجشم الخروج وتقصد مجالس محددة ومخصصة ليقول شيئا، وهذا يمنحه فرصة لمراجعة كلامه من أي نوع هو؟ أهو من الخير، أم من الشر، أم من المباح الذي يكون الإمساك عنه خيرا له؟ وقد روي عن الشافعي نحو ذلك، أنه كان إذا أراد أن يتكلم بكلمة تفكر فيها قبل نطقها، هل هي خير فيرسلها، أم هل هي شر يحجم عنها، أم هل هي مباحة فيتركها خيرا له، ولكن في هذا الزمن لا يكاد جمهورك ومجالسوك أن يفارقوك، ولا تكاد سماعة الهاتف أن تفارق أذنيك، ومع وجود التطبيقات الكثيرة، التي تتيح لك التواصل بالكلام والبث المباشر والكتابة، كل ذلك جعل الكثير منا يندم في أكثر ما يقول وينشر، ولا متسع من الوقت للمراجعة، فما تنشره وإن حذفته مثلاً، فما بين نشرك وضغطك لأيقونة الحذف يكون هناك آلاف من المتابعين قد شاركوا ما أنتجت، وآلاف قد حفظوا فالأمر خطير، جد خطير! وليس في مقدور أكثرنا التريث والتأني والتفكر قبل أن يقول أو يفعل.

ومن أخطر الكلمات ما قد يفوه بها المرء في الأزمات ووقت الفتن، فإن الكلمة قد تشعل فتيلا، أو تطفئ حماسا، أو تثبط مريدا للخير، فلعل السكوت في مثل تلك الأوقات خير وأبقى لدين المرء ولدنياه أيضا. هذا، والله من وراء القصد.