الذي يتأمل مسيرة النقد الأدبي عند العرب سوف يلحظ مروره بأطوار عديدة، وأشكال مختلفة، ومن خلال تلك الأطوار والأشكال تشكّلت لدى الثقافة العربية حصيلة هائلة من الممارسات النقدية التي جعلت من النقد الأدبي أكثر ثباتاً ورسوخاً، بل أكثر تطوراً وتجدداً؛ إذ لم يقف النقد الأدبي في دائرة منغلقة، وإنما سمح لنفسه بأن يتمدد في نطاق أوسع، فانتقل بذلك من الذوقية إلى الانطباعية، ثم إلى المعيارية، وصولاً إلى المنهجية، وكان في جميع الأحوال قائماً على الحكم بالجودة والرداءة، والانتقال بالعمل الأدبي من العادي إلى الجمالي، ومن خلال ذلك نستطيع أن ندرك أن النقد الأدبي ينهض على مستويات متفاوتة، ودرجات متباينة.

ويمكن أن نضع (الذوقية) درجة أولى من درجات النقد الأدبي؛ ذلك أنها تقوم على الانطباع الأول الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة، وهذه الدرجة قد نلمسها في الأحكام العامة، كما نجدها عند الناقد وغيره، ويمكن أن نلمسها بشكل أقرب في أحكامٍ من قبيل: (قوي - جيد – جميل – رائع - متوسط - عادي - رديء - هزيل – ضعيف – ضئيل – سخيف – تافه – مكرور – مبتذل.. إلخ).

ثم تأتي (المعيارية) بوصفها درجة نقدية ثانية؛ إذ تقوم على التسبيب والتسويغ، وطرح الآراء، وتفنيدها، وقد رأينا شبيهاً بذلك قديماً مع (أم جندب الطائية) في قصة الاحتكام الشعري الذي دار بين زوجها امرئ القيس الكندي، وعلقمة الفحل التميمي، فإنها لما أرادت أن تصدر حكمها النقدي حول أشعرهما أخذت تحلل وتفصّل، وتربط رأيها بالسبب، وتدعم حجتها بالدليل، فكانت بذلك معيارية بامتياز؛ ولهذا قلتُ في مقال سابق في جريدتنا الغراء (الرياض) أن هذه المرأة هي «أول من طرق باب النقد الأدبي في تاريخ الأدب العربي، وهي ليست أول ناقدة فحسب، بل هي أول من فتح باب النقد الأدبي القديم على مصراعيه، وشرّعت نوافذه، فصارت بذلك مُؤسِّسةً في هذا المجال..».

وبعد أن استوى للنقد طريقه، وأصبحت له اتجاهاته، وظهر فيه مهتمون، وبرع فيه مبدعون، صار النقد (علميّاً)، ومن هنا فـ(العلمية) درجة ثالثة من درجات النقد، تعتمد على التحليل، والموازنة، والمقابلة، والتمييز، وهي تلك الدرجة التي تبلورت فيها المؤلفات والمصنفات، كما في (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي (231هـ)، و(نقد الشعر) لقدامة بن جعفر (337هـ)، والشعر والشعراء لابن قتيبة (276هـ)، و(الموازنة بين البحتري وأبي تمام)، و(معاني شعر البحتري) للآمدي (370هـ)، و(الوساطة بين المتنبي وخصومه) للقاضي الجرجاني (392هـ)، وغيرها.

ثم ننتقل إلى درجة أعلى أصبح النقد فيها منهجاً يتخذ للدراسات النقدية: النظرية والتطبيقية، وهي الدرجة (المنهجية) التي نشهدها اليوم بشكل أوضح، وقد تطور النقد معها تطوراً ملموساً، امتزج فيه العلمي بالمنهجي، وهذا أمثاله أكثر من أن تحصى، حيث نجده في كثير من البحوث، والدراسات، والرسائل العلمية التي تدرس الأدب وفقاً للمناهج الداخلية أو الخارجية، أو المناهج السياقية، أو النسقية.

وأظن أن هذه الدرجات المتصاعدة، والمستويات المتباينة في ميدان النقد الأدبي هيأت فيما بعد لظهور درجات أخرى مختلفة –إن جاز لنا وصفها بالدرجات– وهي درجات عدلت بالنقد من الأدبية إلى حقول أخرى كـ(الثقافية)، التي يمكن عدّها درجة نقدية، تجلت فيما عُرِف بالنقد الثقافي، ولن أقول عنها درجة عليا، أو دنيا، لكنها درجة من درجات النقد الكثيرة، وقد يتبعها درجات نقدية أخرى فيما بعد.