بُني النقد منذ نشأته قديماً على الحكم بالجودة، أو الرداءة، أو القوة، أو الضعف، ومن الطبيعي في الأحكام النقدية ظهور انطباع آخر لدى الطرف المقابل، إذ قد ينجر عن تلك الأحكام ردود أفعالٍ طبيعية، وربما ظهرت ردود أفعالٍ غريبة، وهي ردود تبدأ من عدم تقبّل الحكم النقدي، إلى رفضه، أو الاستهتار به، وربما تهجينه وتهوينه أحياناً، ولعل في قصة الحوار الذي دار بين أبي سعيد الضرير اللغوي (217هـ)، والشاعر المعروف أبي تمام (231هـ) ما يؤكد على شكل من أشكال النقد الانفعالي، حيث دار بينهما هذا الحوار: «يا أبا تمام لم لا تقول ما يفهم؟! فردّ أبو تمام بقوله: وأنت يا أبا سعيد لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟!» وأشباه تلك الأحكام وانطباعاتها كثيرة.

ولكن كيف يمكن للنقد بأهدافه وغاياته أن يصبح انفعالاً؟! ويتحول إلى تشابك بالأيدي؟! وربما تسيل بسببه الدماء، هنا يصبح النقد انفعاليّاً، أو لنطلق عليه (نقداً شِجَاريّاً)، أو (نقدًا متضارباً)، أو ما شابه ذلك من النعوت الانفعالية، ولعلنا نسوق هنا قصتين نقديتين: قديمة وحديثة؛ لكي نؤكد على وجود هذا اللون من النقد الغريب، فأما الأولى فهي قصة المتنبي (354هـ) مع ابن خالويه اللغوي (370هـ)، وذلك في مجلس عضد الدولة، عندما جرَت مسألةٌ في اللّغة، تكلّم فيها ابن خالويه مع أبي الطيّبِ اللغوي، والمتنبي ساكتٌ، فقال له سيفُ الدّولة: ألا تتكلَّمُ يا أبا الطيّب (المتنبي)، فتكلّم فيها بما قوّى حُجَّة أبي الطيّب اللُّغوي، وضَعّفَ قولَ ابن خالويه حتى تشاجرا، فأخرجَ ابنُ خالويهِ من كمِّه مفتاحاً حديدًا، فَلَكم به المتنبي، فأسألَ دمَه على وجهِه وثيابِه.

وأما الثانية فضمن حكاية سردها المنفلوطي في كتابه (النظرات)، وجاءت تحت عنوان (الصدق والكذب)، فعند حديثه عن بعض المواقف، قال في الموقف الخامس: «قابلني في الطريق شاعرٌ يحمل في يده طومارًا (صحيفة) كبيراً، وكنت ذاهبًا إلى موعد لا بد لي من الوفاء به، فَعَرَض عليّ أن يسمعني قصيدة من طريف شعره، وأنا أعلم الناس بطريفه وتليده، فاستعفيته بعد أن كاشفته بأمري فأبى، فانتحيتُ به ناحيةً من الطريق، فأنشأ يترنّم بالقصيدة بيتًا بيتًا، وأنا أشعر كأنما يجرّعني السمَّ قطرةً قطرة، حتى تمنّيتُ أن لو ضربني بها ضربة واحدة، يكون فيها انقضاء أجلي؛ ليريحني من هذا العذاب المتقطع والتمثيل الفظيع (...) ثم وقف وقال: هذا هو الباب الأول من أبواب القصيدة، فقلت: وكم عدد أبوابها يرحمك الله؟ قال: عشرة ليس فيها أصغر من أولها، قلت: أتأذن لي أن أقول لك يا سيدي: إن شعرك قبيح، وأقبح منه طوله، وأقبح من هذا وذاك صوتك الأجش الخشن، وأقبح من الثلاثة اعتقادك أني من سخافة الرأي وفساد الذوق بحيث يعجبني مثل هذا الشعر البارد (...) فتلقاني بضربة بجمع يده في صدري، فتلقيته بمثلها، وما زالت أكفنا تأخذ مأخذها من خدودنا وأقفائنا، حتى كلّت فجرّدت عصاي وضربته في رأسه ضربة ما أردت بها - يعلم الله - إلا أن أصيب مركز الشعر من مخه؛ فأفسده عليه، فسقط مغشيًّا عليه، وسقطت القصيدة من يده، فأسرعت إليها ومزقتها، وأرحت نفسي منها، وأرحت الناس من مثل مصيبتي فيها، وكان الشرطي قد وصل إلينا، فاحتملنا جميعًا إلى المخفر، ثم إلى السجن، حيث أكتب إليك كتابي هذا».