بعض من أبناء المسلمين زهدوا في الرجولة وأهلها، وغرتهم الدنيا بزخارفها ونجومها - زعموا - فعرفوا عن أقوام نكرات ما دق وخفي من المعلومات، وغابت عن عقولهم، وتوارت عن ذاكرتهم سيرة النجوم حقاً، من المهاجرين والأنصار والسابقين الأولين..

لنطو صفحات التاريخ، ونعيدَ تقويم الزمان، فنعود قروناً قد خلت إلى المدينة النبوية يعلوها سناء الإيمان، ويخفق فوقها لواء التقوى، ويجري في أرجائها سلسبيل القرآن.

هناك تسلط آلات التصوير الإيمانية، إلى بيت من بيوت المدينة النبوية، حيث أنتجت مزرعة الحق ثمرات مختلفاً ألوانها من رجال لا يتكررون، وجيل أفراده لا يُدرَكون، فيمشي أحدهم يطأ الأرض برجليه، ويرى الدنيا بعينيه، ويسمع الأحاديث بأذنيه، وهو من أهل الجنة، يشم عبير رائحتها، وهو لما يزل يتنفس برئتيه، وليس بينه وبينها إلا أن تخرج نفسه التي بين جنبيه.

أسرد لكم في سطور سيرة فذ من رجال محمد صلى الله عليه وسلم، وعيناً نبعت من بين يديه الشريفتين، سقتها ورعتها حتى تفجرت عيناً معيناً، وهدياً زلالاً، يسقي منه من أراد الله هدايته فيروى، فسيرتهم بحق أشبه ما تكون بماء زمزم، طعام طعم وشفاء سقم.

فلنقف هناك عند بيت أحد السابقين الأولين، ممن شهد المشاهد كلها، إلا بدراً، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه فيها، وممن رضي الله عنهم ورضوا عنه. أحد العشرة المبشرين بجنة الخلد، دار المتقين.

من الغريب أن يكون صاحبنا هذا مبشراً بالجنة، وشهد المشاهد كلها إلا بدراً، مع نبينا صلى الله عليه وسلم، وشهد حصار دمشق وفتحها، بل ولي عليها، وكان أول من عمل نيابة دمشق من هذه الأمة، ومع هذا فليس له إلا حديثان في الصحيحين، وتفرد البخاري بحديث واحد عنه، ولا يكاد يعرفه المسلمون، إلا قليلاً!

ولأن صلاح الوالدِ يدرك الولدَ بركتُه، ويُسقى من معينه في الغالب، أدرك صاحبَنا هذا بركةُ فرار أبيه من عبادة الأصنام، وسياحته يتطلب الدين القيم في أرض الشام. ولما رأى اليهود والنصارى كره دينهم؛ ثم قال: اللهم إني على دين إبراهيم. وهو من أهل النجاة يوم القيامة، شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: يبعث أمة وحده.

سعيد بنُ زيد بنِ عمرو بنِ نفيل، أحد العشرة، أسلم قبل عمر، وهو زوج أخت عمر، وابن عمه، وكانت زوجته سبب إسلام عمر، رضي الله عنهم.

وإنما سقت هذا لبيان أن سعيداً رضي الله عنه وهو أحد أفضل هذه الأمة لم ينقل له من الفضائل غير ذلك.

وله قصة أخرجها مسلم في صحيحه من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن أروى بنت أويس ادعت أن سعيد بن زيد أخذ شيئاً من أرضها، فخاصمته إلى مروان، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله؟ سمعته يقول: من أخذ شيئاً من الأرض طوقه إلى سبع أرضين. قال مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، فما ماتت حتى عميت، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت.

وفيه مشروعية الدعاء على من ظلم، فقد قال الراوي لقصتها: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر، تقول: أصابتني دعوة سعيد.

قال النووي: وفي حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه منقبة له، وقبول دعائه، وجواز الدعاء على الظالم، ومستذل أهل الفضل.

وإنما سقت سيرته لأعرفكم به أولاً، حيث إن الكثير من المسلمين يجهلونه، كما يجهلون كثيراً من رجالات الإسلام المبرزين، حملوا رايته، وتولوا نشره وحمايته، لنترحم عليهم، ولنقتفي أثرهم، ولنري أبناء المسلمين أن المقتدى بهم في زماننا هذا لا يُعرفون؛ لأن بعضاً من أبناء المسلمين زهدوا في الرجولة وأهلها، وغرتهم الدنيا بزخارفها ونجومها - زعموا - فعرفوا عن أقوام نكرات ما دق وخفي من المعلومات، وغابت عن عقولهم، وتوارت عن ذاكرتهم سيرة النجوم حقاً، من المهاجرين والأنصار والسابقين الأولين.

من سيرة سعيد بن زيد نأخذ حديثاً يناسب وقتنا، ويستطيع كلنا أن يحفظه، ويتذكر راويه، فعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الكمأة من المنّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل، وماؤها شفاء للعين. متفق عليه. والكمأة هي ما يعرف اليوم بالفقع.

فلا أخالكم تنسون هذا الحديث، فتذكروه، وتذكروا راويه سعيد بن زيد، رضي الله عنه.

ولم تسطر كتب السير شيئاً عن صاحبنا هذا، رغم كونه من العشرة، مما يدل على أن الفضل لا يدركه المرء بشهرته، بل قد يكون مغموراً، كبعض الأنبياء والمرسلين، وقد يدركه من قل عمله ولكنه أتقنه وحسنه، وكان مخلصاً لله فيه، وإن لم يعرفه أحد. هذا، والله من وراء القصد.