تبدو الإشكالية الأبرز في موضوع النقد الثقافي في اصطلاحه، وفي نشأته، وريادته، فالثقافية هنا ليست نعتاً للنقد فحسب، وإنما هي تحديد لمنهج نقدي طارئ، لم يكن معهوداً، أو معدوداً في جملة المناهج النقدية، وصفوة القول: إن النقد الثقافي أخذ يستمد من الثقافة مادته، مقللّاً من وهج النقد الأدبي، أو مُزيحاً له في أكثر الأحيان، لكن الغموض الذي يكتنف هذا اللون من النقد هو في اتساع مفهومه، ودخوله في مجالات كثيرة ومتنوعة؛ ولا سيما أن لفظة (الثقافة) تدل على معانٍ عدة، ذات عمق، وثراء، وشمول، إذ يدخل في أبوابها كل ما يثقفه الإنسان في مجال ما، أو ميدان معين، في مختلف ضروب العلم، والمعرفة، فمن هنا أصبح النقد الثقافي فضفاضاً، بحيث تلجه الأبعاد اللغوية، والأدبية، والاجتماعية، والنفسية، والتربوية، والتاريخية، والإعلامية، والجغرافية، والبيئية، والرياضية، وربما أبعاد أخرى أيضاً.
إن العيب الأبرز في النقد الثقافي -من وجهة نظري- ليس في تنحيته النقد الأدبي عن طريقه، ولكن في نأيه عن المركزيات الأدبية ذات الطابع الجمالي، سواء أكانت تلك المركزيات شعراً، أم سرداً، فغاية النقد الثقافي هي الخطابات بوصفها منتوجاً ثقافياً، وليس معطى جمالياً، ومع ذلك فالنقد الثقافي وحده الأقدر على كشف ما وراء الجماليات من أنساق وغايات؛ ومن هنا انبعث الاهتمام به من خلال ما تتضمنه الأنساق المضمرة التي تكشف عن غير المقصود، وتميط اللثام عن المعنى المتواري؛ ولهذا كان النسق المضمر ركنًا مهماً في بناء النقد الثقافي.
ولئن دلّ النسق في اللغة على «ما كان على نظامٍ واحدٍ عامٍ في الأشياء»، فلقد اتسع مفهومه حديثاً، وأخذ طابعاً فلسفياً جعل بعضهم يعرّفه بأنه: «جملة أفكار متآزرة ومرتبطة، يدعم بعضها بعضاً»، ومن هنا كان النسق مفهوماً دالاً على مجالات واسعة في العلوم الإنسانية، وبخاصة ذات البعد الثقافي، وأصبح في الإطار النقدي يشكّل نوعاً من (الوحدة الثقافية) كما ألمح إلى هذا الإيطالي (إمبرتو إيكو ت2016م)، حينما أشار إلى أن النسق الذي يرتكز عليه النقد الثقافي هو ما يمكن أن يعرّف تعريفاً ثقافياً، سواء أكان ذلك متوجهاً إلى شخص، أم مكان، أم ظاهرة.
ولقد اتخذ د. عبدالله الغذامي -بوصفه رائداً في حقل النقد الثقافي- من (النسق) مفهوماً مهماً في تنظيراته وتطبيقاته، فطرح ثلاثة أسئلة في غاية الأهمية، وذلك في كتابه (النقد الثقافي، قراءات في الأنساق الثقافية العربية)، وهي أسئلة تشكّل عموداً فقريًّا في التعرف على مفهوم النقد الثقافي، وهذه الأسئلة هي: ما النسق الثقافي؟ كيف نقرؤه؟ كيف نميزه عن سائر الأنساق؟ وأشار إلى أن الأنساق الثقافية المضمرة هي أنساق ثقافية تاريخية تختبئ تحت عباءة النصوص، وتتكوّن عبر البيئات الثقافية والحضارية للنصوص الأدبية، فيكون لها بذلك أثر فاعل في توجيه عقلية الثقافة وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية؛ لأنها أنساق فاعلة ومؤثرة، وذات وظيفة تتجاوز الوجود المجرد في النص.
ويرتضي كثير من النقاد اليوم مصطلح (النقد الثقافي)، ولا أدري لِمَ لا ينصّون على وصفه بـ(المنهج الثقافي) أسوة بالمنهج النفسي، والتاريخي، والاجتماعي، وهو تساؤلٌ طرحتُه قبل أيام على د. عبد الله الغذامي في لقاء علمي، فمال إلى (النقد الثقافي)، فهل ما زلنا في مرحلة تشكّل المنهج؟ أم يمكن لنا وصفه بالمنهج الثقافي، أو منهج النقد الثقافي؟!
التعليقات