نحتفل بعد يومين باليوم العالمي للغة العربية، تحت شعار (اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ: لُغَةُ الشِّعْرِ وَالفُنُونِ)، وهو موضوع مهم في بابه، نظراً لما فيه من تحاقل بين العلوم والفنون، ولعل هذه العلاقة بين الشعر والفن هي شكل من ضروب هذا التحاقل؛ ولهذا جعل الفرنسي (إيتيان سوريو1979م Etienne Souriau) الأدب ضمن دائرة الفنون السبعة، حينما وضع لكل فن قُطْراً، فكان مما اشتملت عليه دائرته تلك، التقاء الأدب -وفيه الشعر- بـ(السينما)، والنحت، والرسم، والرقص، والموسيقا، والضوء، ومن خلال الأدب تحدّث (إيتيان سوريو) في دائرته تلك عن العلاقة بين اللوحة والقصيدة، كما أشار إلى تفاعل الشعر مع بعض الفنون الأخرى، وإن كانت تلك العلاقة بين الشعر والفن قديمة النشأة، ذات أصول تليدة، وعروق تراثية.
ولو عدنا بتلك العلاقة إلى عصور أقدم، لرأينا الفيلسوف اليوناني (أفلاطون 347 ق.م) يتوقف عند علاقة الشعر بالفن، حيث أشار في غير موضع إلى أن «الشاعر نفسه يسكب ألواناً بكلماته وعباراته على كل الفنون..»، كما ألمح تلميذه أرسطو (322 ق.م) قبل آلاف السنين -أيضاً- إلى تلك العلاقة بين الشعر والفن، ويكفي لكي نعرف ذلك الإلماح أن نتأمل في عنوان كتابه الذي وسمه بـ(فن الشعر)، وقد تحدث فيه حديثاً عميقاً، فأسهب في نقد الشعر بشكل مستفيض، بل إنه قد أشار إلى بعض الفروق التي تكون بين الشعر والفنون الأخرى، كالرسم، والتصوير، والرقص، والموسيقا، ونحوها، وفي هذا دليل على قِدم تلك العلاقة التي تجمع الشعر بالفنون بشكل عام.
وكذلك لم يبتعد أكثر النقاد العرب قديماً عن ربط الشعر بالفن، أو تقريبه منه على الأقل، ولنبيّن بوادر تلك العلاقة وأماراتها، فإن ابن سلام الجمحي (231هـ) حينما أراد تعريف الشعر ربطه برباطٍ فني، ذي منطلقات مهارية، فراح يعقد بينه وبين الصناعة التي تقوم في أكثر أحوالها على الفن، يقول مثلاً في كتابه الشهير (طبقات فحول الشعراء): «وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ، والياقوت، لا يُعرف بصفة، ولا وزن، دون المعاينة ممن يبصره..».
وعندما تحدث الجاحظ (255هـ) عن قيمة اللفظ والمعنى، عرّف الشعر تعريفاً جماليّاً ذا أثرٍ فني، فجعله صناعة، ونسجاً، وتصويراً، وهي منطلقات إبداعية ذات ارتباط وثيق بالفن، ولا سيما التصوير؛ ولهذا يطلق الجاحظ عبارته الشهيرة من خلال كتابه (الحيوان) فيقول: «والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي، والعربي، والبدوي، والقروي، والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير».
إن الجاحظ في هذه العبارة يقيم شأناً للوزن بوصفه مظهرًا جماليًّا صوتيًّا، كما يجعل من الشعر حرفة لا يتقنها إلا أربابها، وأضاف إلى ذلك بأن جعله نوعاً من النسج الذي هو فنّ أيضاً، أو مهارة في حد ذاتها تقوم على البراعة والإتقان، وختم عبارته في التأكيد على تلك العلاقة، حينما جعل الشعر شكلاً من التصوير الذي هو فن أيضاً قائم على التخييل، والمجاز، والاستعارة، والتشبيه، والكناية، وتلكم وسائل الشعر التي يستعين بها على التماهي مع الفن، كما هي اللوحة، والريشة، والأصباغ، والألوان في عالم الرسم.
التعليقات