يدخل هذا العنوان نقديًّا في (نظرية التلقي)، وهو محور مهم ترتكز عليه هذه النظرية، إضافة إلى (أفق التوقع - أفق الانتظار - اندماج الأفق - المسافة الجمالية - تغيّر الأفق - تأسيس الأفق..)، وتلكم مباحث نقدية حديثة وُلدت (بعد البنيوية)؛ لكي تعيد للقارئ وهجه، وهيبته، ولكي توجّه نقده، وتحاول تصفيته، وإعادة برمجة استقباله، وتقبّله؛ لذلك يمكن عدها من الموضوعات النقدية المهمة ذات الطابع التداولي، وذلك في مراعاتها لأحوال المتلقي.

وإذا كان القارئ وفق نظرية التلقي (أنموذجاً - قياسيّاً - مثاليّاً - مضطرباً - متردّداً - جاهلاً - غير متخصص..)، فإننا يمكن أن نرصد حضور بعض تلك الأنواع من خلال كتب الأدب القديم، فمن ذلك ما جاء في كتاب (زهر الآداب وثمر الألباب) لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الحُصْري القيرواني (453هـ)، إذ يتوافر على أشكال كثيرة من النصوص الأدبية التي تتماوج فيها شخصيات القارئ، ويتنوع فيها نقد استجاباته للنصوص التي يتلقاها، وفي هذا الكتاب شواهد كثيرة تصلح أن نطبق عليها بشكل موسع.

وفي الكتاب ذاته قصة أبي العتاهية (211هـ) حين مدح عمر بن العلاء في قصيدته التي لم يُطِلْ في مطلعها، فقال: «إنّ المطايا تشتكيك لأنّها // قطعت إليك سباسبا ورمالا»، حيث وُصِل عليها بسبعين ألف درهم، فحسدته الشعراء، وقالوا: لنا بباب الأمير أعوام نخدم الآمال، ما وصلنا إلى بعض هذا! فأمر الممدوح بإحضارهم، فقال: بلغني الذي قلتم؛ وإنّ أحدكم يأتي فيمدحني بالقصيدة، يشبّب فيها، فلا يصل إلى المدح حتى تذهب لذّة حلاوته، ورائق طلاوته، وإنّ أبا العتاهية أتى فشبّب بأبيات يسيرة، ثم قال: إنّ المطايا تشتكيك لأنّها..»، فمتلقي النص هنا مثالي؛ لأنه يعلم أن البلاغة في الإيجاز.

وفي الكتاب أيضاً أن ابن الرومي (283هـ) لما مدح الوزير أبا الصقر الشيباني (278هـ)، قال في قصيدة مطلعها: «أجنينك الورد أغصان وكثبان // فيهن نوعان تفّاح ورمان»، وعلّق المؤلف عليها في كتابه هذا قائلاً: «وهي أكثر من مائتي بيت، مرّ له فيها إحسان كثير»، وكان مما قاله ابن الرومي فيها: «قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم // كلّا لعمري ولكن منه شيبان»، قال أبو الصقر: «هجاني، قيل له: إنّ هذا من أحسن المدح؛ ألا تسمع ما بعده: (وكم أب قد علا بابنٍ ذرى شرفٍ // كما علت برسول الله عدنان)، قال: أنا بشيبان، لا شيبان بي. فقيل له فقد قال: (ولم أقصّر بشيبان التي بلغت // بها المبالغ أعراق وأغصان) فقال: لا والله، لا أثيبه على هذا الشعر، وقد هجاني».

فالقارئ هنا مضطرب متردد، ويمكن أن يكون هذا النص المدحي لابن الرومي محل خلاف وجدل في تنوع أذواق القراء؛ ذلك أن أبا بكر محمد بن يحيى الصولي (336هـ) قال: «كنت يوماً عند عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وقد ذكروا قصيدة ابن الرومي هذه النونية، فقال: هذه دار البطيخ، فاقرؤوا تشبيهاتها تعلموا ذلك! فضحك جميع من حضر».

وإذا كان يقال: «لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع»، فإنه يجوز لنا - أحياناً - أن نقول: «لو لا اختلاف القرّاء لبارت النصوص»، فنقد استجابة القارئ هو أمر متحول مع النص بفعل الظروف المختلفة، والسياقات المتعددة؛ لذا كان الاهتمام بذوق القارئ، والعناية به، ورعايته من زواياه المختلفة أمراً تداوليّاً مهماً، ينبغي على المتكلم مراعاته، والتنبه لأغواره وأسراره.