لا يمكن لغير الإنسان أن يكتب سيرته بنفسه، أو أن يتحدث عن حياته، فلا يمكن للحيوان، ولا الطير، ولا النبات، ولا الجماد أن يقصّ علينا من أخباره، أو أسراره، أو يتحدث عن عواطفه، ومشاعره، كل ذلك إنما هو من صميم عمل الإنسان، غير أن عدم قدرة الأشياء على الكتابة عن ذاتها لا يعني عدم التعبير عن مكنوناتها؛ ومن هنا كان وعي الإنسان بالأشياء المحيطة به مهماً في محاولة أنسنتها، والكتابة عنها، وحينئذ يصح لنا وصف تلك الظاهرة بالسيرة الذاتية للأشياء.

إن الكاتب حين يؤنسن الأشياء، ويتحدث بلسانها، إنما يصدر عن ذاته، ويتحدث من تلقاء نفسه، لكنه قد يحسّ بما يحس به غيره، فينطلق من لسان حال الحيوان، أو الطير، أو النبات، أو الجماد، أو ما شابه ذلك، وهو بهذا الصنيع إنما ينطلق من صميم الكتابة السيرية، سواء أكانت تلك الكتابة طويلة، أم قصيرة، وربما كتب الإنسان عن سيرة الأشياء من منظور واحد، أو من زاوية مخصوصة، أو جانب محدد، وهذا ملحوظ – على سبيل المثال - فيما يفعله الشعراء قديماً، حين يصفون حال حيوان، أو طائرٍ، أو شجر، أو جبل، أو طلل، أو بيت، أو مكان، أو ما كان قريباً من ذلك.

ولئن كانت ضروب الكتابة السيرية - كما يقول د. إحسان عباس في كتابه (فن السيرة) – «مفتقرة إلى العمق النفسي»، فقد رأينا نماذج سيرية للأشياء قد اتسمت بهذا العمق النفسي، ففي الشعر قديماً قال عنترة عن خيله: «فَازوَرَّ مِن وَقعِ القَنا بِلَبانِهِ / وَشَكا إِلَيَّ بِعَبرَةٍ وَتَحَمحُمِ = لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اِشتَكى / وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي»، وهو وإن لم يقصد التوسع في الحديث عن هموم ذلك الخيل، لكنه أعطانا لمحة دالة عن شيء من سيرته في تلك الموقعة، فهو خيل مقدام، يشتكي إليه، ويحزن، ويتعبّر، مع أن الشاعر يصرّ على عدم قدرة الحيوان عن الكشف عن مكنوناته.

وربما جاء الحديث عن الحيوان أعمق من ذلك الوصف، وأطول، كما في قصيدة أبي بكر الحسن بن علي النهرواني المعروف بابن العلاّف (318هـ) عندما رثى هِرًّا في قصيدة طويلة يمكن أن نعدها رائدة في مجال السيرة الحيوانية؛ لأنها تتوجه إلى حيوان مخصوص، وتتعمق في مشاعره، وتفاصيل حياته، و(تاريخ شخصيته) على حد وصف (فيليب لوجون)، وهذه القصيدة مطلعها: «يا هِرُّ فارقتنا ولم تعد / وكنت منا بمنزل الولدِ»، والغريب أن هذا الشاعر له قصيدة أخرى يصف فيها هِرًّا أيضاً.

لقد أبدع الشعراء في الوعي بالأشياء، فأحسوا بها، وتحدثوا عنها، وكتبوا سيرتها، فوصف البحتري الربيع، وجعله يختال ضاحكاً حتى كاد أن يتكلم، ووصف ابن خفاجة الجبل في قصيدته (وأرعن طماح الذؤابة باذخ ..) فشخّصه تشخيصاً إنسانياً دقيقاً، وكشف عن سيرة جبلٍ جاثم منذ آلاف السنين، مما يصح أن يعد سيرة جبلية ممتدة نحو أفق زمني طويل.

وكذا الأمر في سيرة الأشجار، والأزهار، والبحار، والأنهار، وغيرها، فإن كل وصف يشخّصها، ويتحدث عن حياتها، إنما هو عمل من صميم الكتابة السيرية، وحينئذ نكون أمام أنواع مختلفة من سيرة الأشياء: سيرةٍ حيوانية، ونباتية، وجمادية، ولكل سيرة تفرعاتها، وكلما أوغلت الكتابة في الوعي بتلك المظاهر، والإحساس العميق بها، والوصف الدقيق لها، اقتربت من تحقيق كتابة سيرية للأشياء.