لا يفرق كثيرون بين الأمانة والقوة عند متبوعيهم، ما يجعل أتباعهم يقلدونهم فيما يفعلون وفيما يذرون، دون تحقيق أو تمحيص، ودون وزن تلك الأفعال بميزان الشريعة الغراء، فتقودهم العواطف وتتحكم فيهم الأهواء..

القوة والأمانة، خصلتان لا بد من توفرهما في المرء ليليَ أمراً من أمور المسلمين، كما جاء على لسان بنت الرجل الصالح من أهل مدين، في كلام جامع حكيم، لا يزاد عليه {قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}، ومتى اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمر ما فقد تم المراد.

وقد أحسن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: "أشكو إلى الله ضعف الأمين، وخيانة القوي".

وهكذا جاء ديننا الحنيف فجعل الأمانة والقوة أساساً للكفاءة في أداء المهمات، وبلوغ الغايات. فالأمانة وازع من النفس، ورقيب عليها يكبح جماحها، ويلجمها الحق فلا تجاوزه، ولا تعتدي الحد. والقوة تشمل العلم، والخبرة والحنكة، وما يلزم من همة ورغبة في أداء المطلوب على أكمل وجه.

ولا يفرق كثيرون بين الأمانة والقوة عند متبوعيهم، ما يجعل أتباعهم يقلدونهم فيما يفعلون وفيما يذرون، دون تحقيق أو تمحيص، ودون وزن تلك الأفعال بميزان الشريعة الغراء، فتقودهم العواطف وتتحكم فيهم الأهواء.

وأذكّر بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر، رضي الله عنه، وهو من هو، ويكفي أنه أحد السابقين الأولين، من نجباء الصحابة الكرام، قيل إنه كان خامس خمسة في الإسلام، كان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم أجمعين.

قال الذهبي في ترجمته: "وكان رأساً في الزهد، والصدق، والعلم والعمل، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه". ومع كل هذه المناقب فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله الإمارة : "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"، أخرجه مسلم. وفي رواية أخرى: "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرن على اثنين، ولا تولّين مال يتيم".

فانظر يا رعاك الله إلى هذا النجيب، أحدِ جهابذة الصحب الكرام، له من المناقب الغزار ما له، كيف غلبت أمانته قوته.

ومن هنا يتضح لك جلياً أن من الفضلاء والأمناء والأتقياء من لا تتوازن فيه الخصلتان، القوة والأمانة -وهذا هو شأن كثير من الناس- فمنهم من تتوافق فيه الخصلتان، ومنهم من تنقص إحداهما عن الأخرى.

ولهذا فقد يستحق المرء أن يثنى عليه في جانب أمانته، وينتقد من جانب قوته، والعكس أيضاً، دون أن ينقص هذا من عظمته أو مكانته.

وكثير من الناس لا يستطيعون التفريق بين قوة الرجل المتبوع وأمانته، فقد يكون متبوعهم ممن غلبت أمانته قوته، أو ممن فقد القوة تماماً، أو يكون ممن غلبت قوته أمانته، أو ممن فقد الأمانة تماماً، لكنهم لما قدّسوه وعظموه في نفوسهم اختلطت عليهم قوته وأمانته، فاتبعوه مع مخالفته للمبدأ ظناً منهم أنه أمين، أو انبهاراً منهم بأنه قوي متين، وكان حرياً بهم أن ينظروا إلى توازن الأمانة والقوة عند من اتبعوه، ويلحظوا دوماً أنهما قلما اجتمعا في شخص واحد بالدرجة نفسها من الميزان.

وعندنا الميزان الدقيق، الذي لا يحابي ولا يجامل، ولا يظلم أو يهضم، ميزان إحدى كفتيه (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)، والأخرى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا). بهذا الميزان تستقيم الأمور، فيقدر المرء على قدره، لا يظلم ولا يهضم، ومتى مال عن سواء السراط قُوِّم بما لا ينتقص من قدره إلا بمقدار ما جانب الحق، لا بمقدار حبنا أو بغضنا له، ولا بمقدار رضانا أو سخطنا عليه.

وبهذا الميزان لا نبرر أفعال من أخطأ ممن نحب أو نعظم، كما لا نكبر زلات من زل ممن نبغض ونعادي. هذا، والله من وراء القصد.