لونٌ جديد من الشعر، لا أحسبه معروفاً، أو مألوفاً، ولا أدّعي أنني أول من أشار إليه، أو كشف عنه، أو أتى فيه بجديد، لكنني في حقيقة الأمر حاولتُ أن أتلمّس هذا العنوان في محركات بحثٍ مختلفة؛ لعلي أظفر بشيء موافق لهذا الموضوع، أو قريبٍ منه على الأقل، فلم أجد شيئاً ذا بال؛ ولهذا أجدني مضطراً إلى القول: إن هذا الشكل الشعري ظهر في العصر الحديث نتيجة تفاعل بين عِلْمين، أو مجالين مختلفين، وهما: الأدب، والإدارة، ومع أن بين الاثنين كثيراً من الفوارق، لكنهما ينسلان من مشارب إنسانية؛ فالأدب هو تعبير إنساني عن الكون، والإنسان، والحياة، بلغة بليغة جميلة، يراد بهاالتأثير في عواطف المتلقين، أما الإدارة فهي علم إنساني حديث، ذو طبيعة مهارية، يهتم بالأعمال المؤسسية التي يديرها مجموعة من الناس، وفقاً لقواعد عملية، ومبادئ تطبيقية، لتحقيق أهداف محدودة، وغايات مخصوصة.
وربما كان الأدب أكثر ميلاً للعواطف، والمشاعر، والخيال، في الوقت الذي تهتم فيه الإدارة بالمنطق، والعقل، والقانون، ولغة الأرقام، والأداء الوظيفي، والممارسات الإنتاجية، ونحوها؛ ولهذا فإنه لا توافق بين الأدب والإدارة من أي جانب، فكيف يلتقيان إذن؟! وللإجابة عن هذا السؤال في بادئ الأمر، لا بد من أن نعود إلى النثر – قبل الشعر– لنذكّر بأن الإدارة ارتبطت بالأدب النثري عن طريق ما يعرف بالرسالة الإدارية التي هي اليوم (الخطابات الرسمية، والمعاريض، وما في حكمها)، وقد تكون الرسالة الإدارية جزءًا متحولاً من شكل الرسائل الديوانية القديمة، وإن كان هناك شيء من التباين والاختلاف بينهما، لكنهما يصدران من بيئة إدارية على كل حال.
غير أن الذي لم يعهده الأدباء، والنقاد، والمثقفون، والمبدعون عموماً هو أن تكون القصيدة إداريةً، أو أن يكون الشعر إداريًّا، أي ذا نَفَسٍ إداري؛ ولهذا فإنه من الطريف أن نجد بعض النماذج الشعرية الحديثة التي حافظت على الغرض الشعري، انسابت في شكلٍ نابع من بيئة الإدارة وتفاصيلها، فتطبّعت بطابع الإدارة، وتلوّنت بلون المؤسسات، ونطقت بلغة العقود، والإنشاءات، والمشاريع، وانبثقت من عالم المكاتب، وما يصدر عنها من المخاطبات، والمناقصات، وما شابه ذلك؛ فعندئذٍ يصبح الشعر إداريًّا، وتكون القصيدة إداريةً، بصرف النظر عن غرضها، وموضوعها.
وقد رأينا هذا اللون من الشعر عند د. غازي القصيبي -رحمه الله– فإنه لما كتب قصيدته (أَقمتَ بدوحكَ النائي تُغنّي) التي أهداها إلى الشاعر الكبير عبد الله بن خميس ردًّا على قصيدته (ثالثة الأثافي)، وكان مطلعها: «أعبد الله يا شيخ القوافي / ومرتجل البديعات الظرافِ)، وقد ألبسها القصيبي ثوبًا إداريًّا، ومما ورد فيها:
وأقرأُ ألفَ معروضٍ وشكوى / وتقرأ أنتَ أشعارَ الرصافي
فبالتصميمِ نبدأُ ثم تأتي / مُنَاقَصَةٌ وفَتحٌ للغِلافِ
وَيعقُبُ ذاكَ تحليلٌ طويلٌ / وقد يتلوهُ تقييمٌ إضافي
فهذا العَرضُ نَزرٌ غيرُ كافٍ / وهذا العَرضُ فجٌّ غيرُ وافِ
وهذا العَرضُ جاءَ بلا ضَمَانٍ / وهذا العَرضُ ذو سِعرٍ جُزافي
فَتَرْسِيَةٌ فإخطارٌ فَعَقْدٌ / فتوقيعٌ على بِيضِ الصِّحَافِ
وَرُبَّ مُقاولٍ نَشِطٍ ويجري / كما تجري القصائد في الشِّغَافِ
يشيّد في صباحٍ أو مساءٍ / عواميد كأعناقٍ الزَّرَافِ
وَرُبَّ مُقاولٍ بالزّحفِ يُبلى / كما تُبلى القصائدُ بالزِّحَافِ
ويمكن أن يدخل في نسق هذه القصيدة الإدارية كلُّ شعرٍ إداريٍّ يتخذ من فضاء الإدارة أفقاً له.
التعليقات