الحَمَاسَاتُ جَمعُ حَمَاسةٍ، وهي مختاراتٌ من الشعر ينّتخبها بعضهم من شعر شعراء مشهورين، أو مغمورين، وقد عُرِفت تلك المختارات أول ما عرفت مع شرّاح المعلقات، ثم مع بعض الكتب التي صُنِّفت في باب الاختيارات، كـ (المفضليات) للمفضّل الضبّي (175هـ)، و(الأصمعيات) للأصمعي (216هـ)، ثم ظهرت بعد ذلك الحماسات التي تصنّف المختارات، وتبوبها، وتنظمها، ولعل من أجمل تلك الحماسات -في نظري- ما اصطفاه الشعراء؛ ذلك لأن الشعراء ألصق بالشعر، وهم الأعرف بجمالياته وغاياته.
وتعدّ حماستا أبي تمام (231هـ): الكبرى والصغرى، وحماسة البحتري (284هـ) من أهم الحماسات في التراث الأدبي، وليس يعني هذا التميز أن الحماساتِ محصورةٌ بين هذين الشاعرين، فقد ظهرت بعدهما حماسات أخرى، من قبيل: (حماسة الخالديين): أبي عثمان سعيد بن هاشم الخالدي (371هـ)، وأبي بكر محمد بن هاشم الخالدي (ت380هـ)، ومن تلك الحماسات أيضاً: (حماسة ابن الشجري) هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة (542هـ)، و(الحماسة المغربية) لأبي العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي (609هـ)، و(الحماسة البصرية) لعلي بن أبي الفرج البصري (659هـ)، وغيرها، ولكن يظل لحماسات الطائيَين تميزها؛ لأنهما شاعران.
إذن، كلما خرجت المختارات من ذوق الشاعر كانت -في نظري- أمتع، وأطرب؛ ولذلك فاقت حماستا أبي تمام، والبحتري كل حماسة، وإن كثرت المختارات بعدهما، وإن تنوع التصنيف والتأليف في ميدانها، حتى دخل فيه لاحقاً من غير العرب، كالمستشرقين، كما عند المستشرق الدكتور (أ.ر. نيكل) في كتابه (مختارات من الشعر الأندلسي)، ومع هذا التقدم فإننا لا نكاد أن نعثر على نماذج واضحة من مختارات الشعراء في العصور المتأخرة، وكذلك في العصر الحديث، إلى نصل إلى تجربتين واضحتين: الأولى عند الشاعر المصري (محمود سامي البارودي 1904م)، والثانية عند الشاعر السعودي (غازي القصيبي 2010م).
فأما البارودي فقد أراد أن يزود أهل عصره بما يقوي ملكتهم الأدبية، والبلاغية، فانتقى مجموعة مختارة من شعر الشعراء الأقدمين، منذ العصر العباسي، فبدأ بالقرن الثاني الهجري، وانتهى بالقرن السابع، وكان أقدم الشعراء الذين اختار لهم بشار بن برد (167هـ)، وأحدثهم أبو العباس شرف الدين المعروف بابن عُنين (630ه)، وكان عدد الشعراء الذين اختار لهم ثلاثين شاعراً، وقد صرّح بذلك في مقدمته حين قال: «وبعدُ، فقد جمعتُ في كتابي هذا ما اخترتُه من شعر ثلاثين شاعراً، من فحول الشعراء المولّدين (...) ورتّبته على سبعة أبواب: الأدب، المديح، الرثاء، الصفات، النسيب، الهجاء، الزهد»، فكان بذلك محاكياً لمنهج أبي تمام في حماسته.
وأما القصيبي، فقد رأيناه في كتابه (بيت) الذي هو في أصله مختارات شعرية لشعراء عرب، ونزر قليل من غير العرب، وقد مهّد لكتابه هذا قائلاً: «في الصفحات التي تلي، محاولة متواضعة جداً، محصورة جداً، لإرجاع الشعر إلى طبيعته، تعبيراً عفويّاً عن تجارب الروح البشرية، وتحريره من أغلال النقد الثقيلة التي كثيراً ما تغتال أجمل ما فيه»، ثم انتظمت مختاراته على نهج متنوع، فلم يكتفِ بعصر محدد، وإنما صال وجال في كل عصر، وانتخب من كل شعر، وكان أقدم الشعراء الذين اختار لهم (المهلهل بن ربيعة التغلبي 531م)، وأحدثهم الشاعر السعودي محمد العلي، وغيره من الشعراء المعاصرين، ولوحظ في اختيارات القصيبي امتدادها الزمني، ووقوفها عند البيت، والتعريف بصاحبه، ومناقشته وتحليله أحياناً، وهي سمة خالف فيها القصيبي سنّة الحماسات، غير أنه أودعها شيئاً من الحيوية والإمتاع.
التعليقات