يستهل الإمام البخاري (256ه) - رحمه الله - كتاب الصوم في صحيحه المعروف بباب (وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ)، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، حيث شرع باستشهاد قرآني، استعان فيه بما يطلق عليه النقاد الإنشائيون (الحوار المباشر)، فوظّف هذا المقوم الإنشائي الذي يعد من معززات أدبية الخطاب، وهو عنصر مهم جداً اتكأ عليه البخاري في معظم أحاديث الصحيح؛ حيث ينقل أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم – بحسب أسانيدها، وتسلسل رواتها.
وإذا انتقلنا إلى (الوصف) الذي هو أحد مظاهر أدبية الخطاب، فإننا نجده كثيراً في أحاديث الصوم عند البخاري في صحيحه، ولعل من ذلك مثلاً: «حدثنا عبدان: حدثنا عبدالله: أخبرنا يونس، عن الزهري، قال: حدثني عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة».
ففي الحديث السابق يتشكل الوصف في أعلى صوره، كاشفاً عن أدبية الخطاب وشعريته، ففي (أفعل) التفضيل (أجود الناس) إشعاع وصفي، ثم في تسلسل الحديث تزداد قوة إضاءة الوصف؛ فهو – صلى الله عليه وسلم – جواد في كل وقت، وهو جواد على نحو أعلى في شهر يكون الناس فيه بحاجة إلى الأجواد الأسخياء، وهنا ترتفع درجة الوصف، لتكمل ما سبقها، فهو – صلى الله عليه وسلم - (أجود ما يكون في رمضان)، ويسهم التحديد الزمني الدقيق هنا في رفع مستوى الوصف، (رمضان – حين يلقاه جبريل – وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان..)، ويُعلي الوصف البياني في آخر الحديث من أدبية الخطاب، وتقوية درجاته، (أجود بالخير من الريح المرسَلة)، أي: الريح العامة النافعة التي تشمل وتعم.
ويعد (السرد narrative) مقوماً آخرَ من مقومات شعرية الخطاب وأدبيته، وهو أن يتحلى الخطاب بحدث يُحكى، أو قصة تُعرَض، أو عمل يُروى، وقد رأينا ذلك السرد في مواطنَ كثيرةٍ من أحاديث الصوم، من ذلك مثلاً: «حدثنا عبدالله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه أخبره: أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟. فقال: يا عائشة، إن عيني تنامان ولا ينام قلبي».
ففي هذا الحديث يتجلى السرد في نقل عائشة - رضي الله عنها – لصفة صلاة الرسول – صلى الله عليه وسلم - وفيما يطرحه السائل، وفي الحوارات المباشرة (فقالت – فقال ..)، والضمنية (فلا تسل – فلا تسل ..)، ويتضح السرد على نحو أجمل في تفصيل كيفية الصلاة (حسنهن وطولهن)، وفي تحديد زمنها (في رمضان ولا في غيره)، وفي ضبط عددها (إحدى عشرة – أربعا – أربعا – ثلاثا..).
التعليقات