التداولية علم استعمال اللغة، وهي مبحث حيوي يجعل الخطابات أكثر تفاعلاً، وذلك من خلال مراعاة المقام، وأحوال المخاطب، وكيفيات التواصل، وأغراض الكلام، وقوانين الإقناع، وما يرمي إليه من مقاصد، وغايات، فهي تنظر إلى اللغة بوصفها ظاهرة خطابية، وتواصلية، واجتماعية في آن؛ لذلك تنهل التداولية من مشارب عدة، تصب في تعزيز قيمة الخطاب.
والمتأمل في الأحاديث النبوية التي أوردها البخاري في صحيحه ضمن كتاب الصوم يلمس فيها أثراً تداوليّاً، فمن ذلك ما جاء في هذا الحديث: «حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني معن قال: حدثني مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبدالله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة، دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة، دعي من باب الصدقة. فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم».
ففي الحديث يبدو (المثلث الحجاجي) المتألف من: القائل، والمستمع، والحجة، وقد ذكر بعض النقاد التداوليين أن الحجج وفق هذا المثلث قد تأتي على أشكال متنوعة، كحجج التناظر، وحجج التهيئة، وهي حجج تعتمد على العرض، أو التعريف، أو التقسيم، أو التحديد، وهو ما لمحناه في هذا الحديث، حيث تبدو تلك المحددات واضحة في (زوجين – فمن كان من أهل .. - الأبواب كلها - منهم)، كما نلمس في هذا الحديث اعتناءً بالمخاطب من خلال التعريف، والتحديد (من كان من أهل ... - فهل يدعى أحد ... - أن تكون منهم)، واعتناءً بالموضوع الحجة الذي هو الإنفاق (من أنفق زوجين).
وقد نجد في بعض أحاديث الصوم توظيفاً لما أطلق عليه التداوليون (المخفّف الحجاجي)، وهو قانون خطابي يسهم في إقناع المخاطب عن طريق التخفيف والتدرج، وقد رأينا هذا النمط التداولي مثلاً في هذا الحديث: «حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عبدالله بن عمرو قال: أُخبِرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي، قال: فإنك لا تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: فصم يوما، وأفطر يومين. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: فصم يوماً، وأفطر يوماً، فذلك صيام داود -عليه السلام- وهو أفضل الصيام. فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أفضل من ذلك».
ففي الحديث تتجلى المخففات الحجاجية التي تتدرج بالمخاطب المخصوص إلى حيث الاقتناع بالأيسر، كما يبدو المخفف الحجاجي متوجهاً إلى المخاطب العام الذي هو عموم المسلمين عندما يستشعرون يسر الشريعة وسماحتها.
التعليقات