كلما دنا رمضان من الانتهاء، وأوشك على الرحيل والانقضاء، تجدّدت في النفوس مشاعر متباينة في وداعه، ما بين فرحٍ بتمام الصيام، وحزنٍ على الرحيل والانصرام، وهو ما جعل الناس في توديعه فريقين: متفائل، ومتشائم، ولكل من التفاؤل والتشاؤم درجاته، فأما درجات التفاؤل فأعلاها الرضا والفرح والاستبشار، وأدناها الابتسامة، وأما درجات التشاؤم فأعلاها التشكي والتحسر والندم، وأدناها العبوس، وأخال أن الذين عمروا رمضان بالطاعات، والنافع المفيد هم المتفائلون، وأما الذين فرّطوا فيه، ولم يغتنموه، فأولئك هم المتشائمون.

لقد تشكّل الخطاب التوديعي في التراث العربي وفق هذين النمطين، ففي القديم ظهرت لنا خطابات شعرية متفائلة تشير إلى انقضاء رمضان ورحيله، من قبيل: «ولما انقضى شهـر الصيام بفضله..»، «واقتضى الشهرُ من معاليكَ صُنعاً ..»، «مضى الشهرُ محموداً..»، «مضى رمضانُ محموداً ووافَى»، على أن في مقابلها خطابات أخرى متشائمة كما في: «إني ليعجبني تمامُ هلالهِ = وأسرُّ بعد تمامِه بنحولهِ»، ومثله: «رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي ..»، ومن عجبٍ أن يصرّح أمثال هؤلاء بسخطهم وتبرمهم.

لقد ترك انقضاء رمضان في نفوس بعض الشعراء أثراً أوصلهم إلى الحد الذي لم يكتفوا معه في الإشارة إليه بشكل عابر، أو على نحو عارض، بل قصدوا إليه قصداً، كما رأينا عند الشاعر الأندلسي ابن الجَنَّان الأنصاري الأندلسي (648هـ) أحد شعراء القرن السابع الهجري، الذي خصّ وداع رمضان بقصيدة منها:

مضى رمضانُ أو كأني به مضى

وغابَ سناه بعد أن كانَ أَومَضَا

أَلَمّ بنا كالطيفِ في الصيف زائراً

فخيّمَ فينا ساعة ثم قوّضا

فيا ليت شعري إذ نوى غربة النوى

أبالسخط عنّا قد تولى أم الرضا

ودفع هذا الفراق بعضهم إلى التأليف في توديع رمضان، على نحو ما صنع أبو الفرج بن الجوزي البغدادي (597هـ) في رسالته (وداع رمضان)، وهي رسالة ذات طابع وعظي يحث على اغتنام الشهر الكريم، وتدارك ما تبقّى منه، وذلك بأسلوب رقيق، مؤثر، ومما جاء فيها: «إن شهر رمضان قد انصرم وانمحق، وتشتّت نظامه بعد أن كان اتسق، فكأنكم به قد رحل وانطلق، يشهد لمن أطاع وعلى من فسق، فأين الحزن لفراقه وأين القلق؟».

وبدا الخطاب التوديعي واضحاً في العنوان أيضاً، وقد لمحناه في كتاب (مثير الأحزان في وداع رمضان) لابن الوزير محمد بن إبراهيم بن علي (840هـ)، ومما يميز هذا الكتاب احتواؤه على جملة من النصوص الشعرية والنثرية التي قيلت في وداع رمضان، وامتد أثر هذا العنوان إلى عصرنا هذا، فلمحنا ما يشبهه، كما في كتاب (بدموع الأحزان نودع شهر رمضان) لسليمان بن عبد الكريم المفرج، وإن كان الكتاب ذا لون وعظي.

ويحضر الخطاب التوديعي عند بعض الأدباء المعاصرين، ويمكن أن نستشهد بغازي القصيبي –رحمه الله– الذي ودّع رمضان في مقالٍ له نُشِر في صحيفة الوطن السعودية، في يوم الأربعاء 26 شعبان 1429هـ، الموافق 27 أغسطس 2008م، في السنة الثامنة، العدد (2889)، ومما جاء فيه: «غريبٌ أن تودّع ضيفاً قبل وصوله. إلا أن هذا الضيف الغالي «رمضان» رحل عنا منذ زمن (...) وحلّ محله رمضان آخر بملامح نعرف أقلّها وننكر معظمها (...) الحق أقول لكم: أنا - ولا أدري عنكم - أَحِنُّ إلى رمضاني القديم، كثيراً، كثيراً!».