حين يموتُ الشعراءُ تخلّد ذكرهم قصائدهم، وتتحدث عن آثارهم أشعارهم، فكأنهم باقون في نفوس الناس لا يفارقونها، تعود ذكراهم وتتجدد في كل بيت شعري أبدعوه، وعند كل معنى مطرِب نسجوه، يتذكرهم من مرّ بموقفٍ صعب، أو فارق إنساناً عزيزاً، أو أحبَّ حبّاً مخلصاً، أو فرح فرحاً غامراً، أو عاتب بلطفٍ، أو كره دون سخفٍ، أو فخر بما يستحق، وهكذا يخلّد الشعرُ ذكرَ صاحبه، فيظل يسترجعه كلما طالته يد النسيان، أو أوشك على الزوال، وكم من قصائد ظلّت مشرقة بعد غروب أصحابها، ومنيرةً منذ أن انطفأت أنوارهم، أخذت تنبض بهم، وتردد ذكرهم، ولنا في الشعراء الأقدمين دليل واضح.

رحل (البدر) الذي كان مضيئاً بجمال شعره العذب طيلة عقود منصرمة، رحل الشاعر الذي عُرف بـ(مهندس الكلمة) صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-، وعزاؤنا لأسرته، وذويه، وللأسرة الحاكمة، وإلى كل محبي الشعر الجميل، وإلى كل الذين أحبوا فيه شاعريته، وعفويته، وأريحيته، وبساطته، وجماليته، رحل الشاعر الذي ظل مكافحاً بكلمته، ومخلصاً بشاعريته للوطن، وقيادته، وشعبه، وأرضه، وتاريخه، وأمجاده، ومستقبله المشرق، وما زال كذلك بدراً متألقاً في سماء الوطن، وفضاء الجمال، وعالم الإنسانية إلى آخر لحظة في حياته -رحمه الله-.

ومن عجبٍ أنني كنتُ أتواصل مع صديق عزيز من مكان بعيد، كان يبعث لي برسائل يلفها الشوق والحنين، كان من بينها مقطع بصوت الأمير، وهو يردد مقطوعته الشجية: «كأن أحبابنا غابوا..»، لكنه صدمني بعدها بدقائق عندما أرسل لي نبأ وفاته، فظننت الأمر لا يخلو من إشاعة، حتى تأكد لي الخبر، فكان أثر الكلمات أشد ألماً بيننا، وتحولت الرسائل إلى أدعية، واستذكار لسيرة شاعر طالما كانت تروينا كلماته الدافئة، وتصاويره الحسان، ومعانيه المطربة، وفلسفته العميقة.

لقد ترك البدر وراءه شعراً مفعماً بالجمال، والإنسانية، ويمكن القول: إنه يشبه السيّاب الذي بنى لقصيدة التفعيلة مجدها، فقد كان البدر -كذلك- رائداً مجدداً في شعر التفعيلة الشعبي، وأتى بموضوعات جديدة، ومعانٍ طريفة، وتشبيهات بليغة، مع لغةٍ مرنة؛ ولهذا انفتحت قصيدته على حدود واسعة، ورقعة كبيرة من الوطن العربي، حتى عُدّ واحداً من أهم رواد الشعر في زمنه، ولا غرو فقد أبدع في كل غرض، وتفنن في كل موضوع، وتميز في جملة من الأغراض الشعرية، وكان مبتكراً، وذا خط فريد لا يكاد أن يشبهه أحد.

كان البدر في أشعاره مشعّاً، ففي الفخر تجده (فوق هام السحب)، وفي المدح يلهج بـ: «الله البادي»، و»الله أحد»، و»كلنا سلمان»، و»يا طويق»، وفي الوصف يرسم (نجمة ونهر)، وفي الاعتذار يصرّح بـ «أبعتذر»، و»صدقيني»، ويختزل الغزل في كلمة (أنا أحبك)، ويوجز العتاب في (الموعد الثاني)، ويظهر شوقه وحنيه في (صوتك يناديني)، وفي الرثاء يصوغ الحزن في «علمتنا الشمس نرضى بالرحيل»، إلى غير ذلك من قصائده الرائعة -رحمه الله-.

والمتأمل في عناوين دواوينه يلمس فيها شعرية عالية، كما في: (للحب الذي أتمناه – رسالة من بدوي – ما ينقش العصفور في تمرة العذق – شهد الحروف - هام السحب – لوحة ربما قصيدة)، وكذا في عناوين قصائده نلمح شيئاً من تلك الشعرية الباذخة، كـ (ليل التجافي – زمان الصمت – عز الكلام – ردي سلامي – الفجر البعيد – قال السراب – خضار البحر – بحر العيون – رماد المصابيح)، وغيرها؛ فرحم الله البدر.