جاء في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (170هـ) إشارة إلى معاني مادة (شرف) ودلالاتها، فمن ذلك: «الشرف: مصدر الشريف من الناس. شرف يشرف، وقوم أشراف، مثل: شهيد، وأشهاد ونصير، وأنصار. والشرف: ما أشرف من الأرض. والمشرف: المكان تشرف عليه وتعلوه. ومشارف الأرض، أعاليها. ولذلك قالوا: مشارف الشام، والشرفة: التي تشرف بها القصور، وجمعها: شرف. والشرف: الإشفاء على خطر من خير أو شر، ويقال: هو على شرف من كذا. وأشرف المريض، وأشفى على الموت، وساروا حتى إذا شارفوهم، أي: أشرفوا عليهم. واستشرف فلان: رفع رأسه ينظر إلى شيء».

وانطلاقاً من هذه المعاني والدلالات التي تشير في أكثرها إلى العلو، والارتفاع، والاقتراب، فإن شرف الشيء هو علوه، ومكانته، وكل ما يجعله متميزاً؛ ولهذا فإنهم إذا قالوا: «شَرُفَ الرَّجُلُ»، فإنما يعنون به أنه صَارَ ذَا شَرَفٍ، وَمَكَانَةٍ، وَمَنْزِلَةٍ، واشتقوا مثل هذه المعاني مع المصدر فقالوا مثلاً: «شَرَف الإنسانِ، أي: علوّه، أو مجده، أو تميزه، أو نحو ذلك؛ ومن هنا جاء في حديثٍ حسنٍ: «شرفُ المؤمنِ قيامُ الليلِ»؛ ذلك أن الليل مستودع الأسرار، ووقت الهدوء، وهو أحرى بالراحة، والدعة، والنوم؛ لذلك كان لمن يعمره بالعبادة فضل وشأن، وقد قال الله تعالى: «كانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ».

وعلى غرار هذا الشرف حاولتُ أن أتلمّس بعض (الشرفيات) المماثلة، فرأيتُ أن أضع لكل إنسانٍ شرفاً يعلوه، ويعلو به، وهو وضع تقريبي، ومن تقديري الشخصي، فمن ذلك أن شرف المواطِن في إخلاصه، وشرف المُعلِّم في تعليمه، وشرف المهندس في دقته وضبطه، وشرف الطبيب في رحمته وإنسانيته، وأمانته، وشرف المسافر في حسن سمعته التي ينقلها معه في كل بلد يسافر إليها، وهذه السمعة أنواع، أو درجات: سمعةُ دينه، وسمعة نفسه، وسمعة أهله، وسمعة قومه، وسمعة وطنه، وسمعة أخلاقه عمومًا.

ويمكن أن نقول أيضاً في المجال الرياضي: إن شرف الرياضي عموماً هو في أداء تمارينه، ويدخل في هذا الشرف من الرياضات: شرف لاعب كرة القدم في مهاراته وأهدافه، وشرف السبّاح في غوصه وعومه، وشرف لاعب كرة الطائرة، وكرة السلة في ارتقائهما، وتسديدهما، وشرف العدّاء في ركضه وعَدْوه، وشرف الرامي في دقة تصويبه، وشرف الواثب في قفزه، وشرف راكب الخيل في اتزانه وثباته.

وعلى الصعيد العلمي، والمهني، والفني، يمكن أن نقول: إن شرف الأستاذ الجامعي في أبحاثه ودراساته، وطلابه، وخدمة مجتمعه، وشرف المثقف في قراءته، وشرف المؤرخ في توثيقه، وشرف الرياضي في مسائله ومعادلاته، وشرف الكيميائي، والفيزيائي، والبيولوجي، في تجاربه ونتائجه، وعيناته، وشرف الفقيه في أحكامه وفتاواه، وشرف المحدّث في تخريجه وتصحيحه، وشرف البلداني في أسفاره، وشرف الشاعر في أوزانه وصوره ومعانيه، وشرف الناثر في تراصف ألفاظه، واتساق معانيه، وتناسق أسلوبه، وشرف النحوي في مثاله وشواهده وإعرابه، وشرف البلاغي في تشبيهاته واستعاراته وكناياته ومجازاته، وشرف الناقد في حسن تمييزه، وكثرة صوابه، وشرف القاضي في عدله، وشرف القانوني في لوائحه وبنوده، وشرف الفنان التشكيلي في ريشته ولوحاته.

وعلى المستوى الاجتماعي: شرف الصديق في وفائه، وشرف القريب في مودته، وشرف البعيد الغريب في حنينه وأشواقه، وشرف الجار في أمانه، وشرف الكبير في تواضعه، والصغير في احترامه، والغني في سخائه، والفقير في تعففه، وهكذا فإن لكلٍّ شرفه الذي يميزه، ولعل هذا المقال يحرض على اكتشاف شرفيات أخرى.