لم يكن أحد يتصور أن تعود مطارات عالمية لعادات مهجورة، وتستخدم (السبورة) الكتابة مواعيد الرحلات، وتقوم بإصدار تذاكر السفر بشكل يدوي، في عودة مؤقتة إلى (الورقنة) بعد الرقمنة، والعطل تم تحييـده ومعالجتــــه، إلا أن آثـــاره ستستمــــر لبعض الوقت..
في يوم الجمعة 19 يوليو الجاري، تعطلت الخدمات الحيوية في معظم دول العالم، والسبب عطل تقني في نظام تشغيل شركة مايكروسوفت المعروف باسم (ويندوز)، وقد كان ذلك نتيجة لتحديث بسيط على برنامــج (فالكون)، الموجود ضمن خـــدماته، وهو يعمل على الحمــــاية الاستباقية من التهديدات السيبرانية، ويستخدم الذكاء الاصطناعي في عملياته، والبرنامج تملكه شركة (كراود سترايك) الأميركية للأمن السيبراني، والتي يستحوذ صندوق الاستثمارات الأميركي الحكومي، على الحصة الأكبر فيها، وما سبق شل أعمال شركات طيران واتصالات ومؤسسات إعلامية، ومعها البورصة العالمية والبنوك وخدماتها، والمستشفيات والقطارات، وحتى محال البقالة التي تستخدم أجهزة الدفع الإلكتروني.
ضخامة المشكلة جاءت بفعل استخـــدام 70 % من دول العـــالم لنظام (ويندوز)، وهـو احتكار غـــير مفهوم، بالنظـــر لوجـــود أنظمة تشغيـــل تحمـل نفس جنسيتـه، كـ (مـــاك) و(لينكس)، وكلهــا لـم تتضرر، بالإضافة لسلامة أنظمة التشغيل الوطنية في روسيا والصين، ما يطرح الحل الوطني كبديل يستحق التفكير في حالات الطوارئ، وبجانبهما المملكة، صاحبة المركز الأول عالميـــا في مؤشر الأمن السيبراني لعام 2024، فقد أكــــدت (سدايا)، عدم تـأثر أنظمتها وأنظمة من تستضيفهم على المستوى المحلي، والبنوك السعودية محمية من الأعطال، لأنها تعمل على شبكة (مدى) الخاصة بها، ومن يحاول إحالة تكدس الطوابير في بعض المطارات السعودية على العطل، وتحديدا في مقاطع متداولة على السوشال ميديا، لم ينتبه لوجود خطوط طيران أجنبية تغادر من الأراضي السعودية، وأن أجهزتها موصولة بأنظمة متضررة في دولها.
أنظمة (ويندوز) وبرنامج (فالكون)، يتعامل معهما قرابة 24 ألف حاسوب مركزي حول العالم، وكل واحد من هذه الحواسيب، مربوط بما يصل لعشرة آلاف جهاز فرعي، والأخيرة متصلة بسلسة طويلة من أجهزة الكمبيوتر في القطاعات المختلفة لكل دولة، وحجم الضرر يصعب تصوره، وتقديراته المبدئية تصل لترليون دولار، وهذا محصور في الأربــــع والعشرين ســـــاعة الأولى، والــدليل أن شركة مايكروسوفت، وبمجرد إعلان الخبر، تراجعت أسهمها وخسرت نحو 60 مليار دولار، مع أن المسؤولية تتحملها بالدرجة الأولى، شركة (كراود سترايك)، لأنها صاحبة التحديث المعطل، وقد تتم مساءلتها من قبل الحكومة الأميركية، بالإضافة لمقدمي الخدمات السحابية في مايكروسوفت وأمازون وغوغل.
بالتأكيد هذه ليست المرة الأولى التي يتعطل فيها الإنترنت، فقد سجلت ثلاث حالات مشابهة، ما بين عامي 2008 و2021، الأولى عندما انقطعت خدمات الإنترنت والهاتف، في أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط وجنوب آسيا، بفعل تضرر الكابلات الرئيسة للإنترنت في البحر المتوسط، والثانية تعرض شركة التزويد بأسماء النطاقات (إي واي إن)، لهجمات إلكترونية، تعرف باسم (الحرمان من الخدمة) وتسببها في وقف بعض خدمات الإنترنت حول العـــالم، والثالثـة تعطل (فيسبوك) و(واتس آب) و(انستغـرام) لمــدة ست ساعات، لحدوث تغير خاطئ في الإعدادات، وشركة (كراود سترايك)، تعمل على إنتاج شاشات السيارات لشركتي (تسلا) و(مرسيدس)، وقد تعـرضت لهجوم سيبـــــراني في عام 2014، من قبل مجموعة اسمها (بي تي 29)، وتم تكليفها بالتحقيق في الاتهامات الموجهة لروسيا، وتحديداً فيما يتعلق بالتدخل الإلكتـروني في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، والتأثير على نتائجها.
الخطير هو أن مثل هذه الكوارث التقنية، فد تنعش عصابات الجرائم الإلكترونية، وبحسب تقارير لمؤسسات حكومية بريطانية، فقد رافق العطل ارتفاع في حالات التصيد الاحتيالي بواسطة الإيميل، وبحجة أنهم يستطيعون حل هذه المشكلة، ويوم الجمعة الذي حدث فيه التوقف، يصـــادف أول يوم للإجــــازة المدرسيـــة في بريطانيا، بخلاف أن معظم الناس في أوروبا وأميركا، يفضلون السفر في هذا اليوم، ولعل قطاع السفر والسياحة يعتبر أكبر الخاسرين، ومعه شركات التأمين التي ستدفع قيمة كل ما أمّن عليه وتعطل، والرابح هم المحامون لأنهم سيترافعون في القضايا ضد كل أحد، وشركة (بالو آلتو) المنافس التقليدي لـ (كراود سترايك)، والتي ارتفعت أسهما بفضل العطل.
لم يكن أحد يتصور أن تعود مطارات عالمية لعادات مهجورة، وتستخدم (السبورة) الكتابة مواعيد الرحلات، وتقوم بإصدار تذاكر السفر بشكل يدوي، في عودة مؤقتة إلى (الورقنة) بعد الرقمنة، والعطل تم تحييـده ومعالجتــــه، إلا أن آثـــاره ستستمــــر لبعض الوقت، لأن هناك رحــلات طيران أعيدت جدولتهـــا، وعمليــــات جــــراحية تم تــأجيلها، وأشخــــاص تضرروا بأشكال مختلفة لا يمكــــن حصرها، وتعـــــويضات يجب أن تدفع، وما حدث كشف ويكشف دائماً، عن عدم استعداد الدول لهذا النوع من الأزمات الرقمية، وعن غياب خطط الطوارئ المناسبة للتعامل معها، والمفروض أن يكون الاهتمام بصناعة نظم تشغيل مستقلة ووطنية، ومستقرة في أراضيها، كما هو الحال في روسيا والصين، لأن احتكار دولة أو جنسية واحدة لنظم التشغيل، أمر غير مقبول، ولا يستبعد أن يستغل في المستقبل لابتزاز الدول، أو تعمد تعريض شركاتها للإفلاس، والإضرار باقتصادها الوطني ومقــــدرات شعوبها، خصوصاً وأن العـــالم كله يستقبل المعلومات، من مصدر واحد، ولا يعرف إلا التفاصيل المعلن عنها.
التعليقات