ليس التقاعد نهاية المطاف كما يظن الكثيرون، بل هو أشبه بمرفأٍ ترسو عنده السفينة بعد رحلة طويلة في بحر العمل، لتستريح قليلًا وتتهيأ لإبحارٍ جديد، أعمق وأجمل. كثيرون يختزلون التقاعد في معاشٍ يُصرف كل شهر، كأن الإنسان محكومٌ بجيوبٍ تمتلئ وتفرغ، بينما الحقيقة أن التقاعد أوسع من ذلك بكثير؛ إنه استثمار في الإنسان نفسه، في ثقافته، وفي علاقاته، وفي معناه الوجودي.
في الجانب الثقافي، يمنح التقاعد صاحبه زمنًا حرًا لم يكن يومًا في متناول يده. هي فرصة لفتح الكتب التي غطاها الغبار على الرفوف، ولقراءة الصفحات التي كانت مؤجلة بحجة الانشغال، وللكتابة التي قد تُحوّل التجارب المتراكمة إلى ذاكرة مكتوبة تُلهم من يأتي بعده، وهنا يصبح القلم وسيلة لاستثمار العمر، والكتاب جسرًا يمتد بين الماضي والمستقبل.
أما في الجانب الاجتماعي، فالتقاعد دعوة لإعادة ترميم الجسور مع الأحبة، فالوظيفة كثيرًا ما سرقت من الإنسان لحظاتٍ كان يمكن أن تكون أثمن من أي إنجاز مهني.
بعد التقاعد، يمكن للمرء أن يعود إلى داره لا كغريبٍ متعب، بل كرفيقٍ لأبنائه، ودفءٍ لأحفاده، وسندٍ لمجتمعه، إنه زمن للعطاء التطوعي، وزمن للمشاركة الوجدانية التي تعيد صياغة معنى الانتماء.
ثم يأتي الوجه الثالث: الحياة نفسها، فالتقاعد ليس خواءً ولا فراغًا، بل هو فضاء رحب للتجريب والاكتشاف، يمكن للمتقاعد أن يستعيد هواياته القديمة؛ يرسم، يزرع، يسافر، أو حتى يتعلم ما لم يتعلمه من قبل، هو زمن للتأمل في الجمال، وللسفر بين المدن والذكريات، وللسعي وراء شغفٍ تأخر كثيرًا.
إن التقاعد بهذا المعنى ليس “انتهاء خدمة” بل بداية خدمة أسمى، خدمة الذات، وخدمة الذاكرة، وخدمة الحياة، هو استثمار لا يُقاس برصيدٍ في البنك، بل برصيدٍ في القلوب، ولا يُترجم إلى أرقام، بل إلى لحظاتٍ من الرضا والسكينة، ومن أحسن استثماره عاش أجمل أعوامه، وترك أثرًا أعمق من أي مال.


التعليقات